اللغة بين الفهم والكتابة

اللغة بين الفهم والكتابة: لماذا تخذلك الكلمات حين تَكْتُبُ؟

في المساء، حين تهدأ الأصوات، ويتلاشى ضجيج المدينة تحت ضوء القمر، كنا نجلس أمام التلفاز أو نفتح الإذاعة المحلية، ونترقب صوت دامبالي، الحكّاء الذي يشدو بقصص الأسلاف بلسان السانغو، ينثر الحكايات كأنها درر تسقط من السماء.

وقتها كنت أستمع إليه مأخوذاً، أرى المشاهد تتشكل في ذهني، وأشعر أني أعيش داخل القصة، حتى لحظة انقطاع السحر؛ حين تتحول الشاشة إلى النشرات الإخبارية الفرنسية، لغة الإدارة وبعض المثقفين؛ حيث الحروف صارمة، والجمل متقنة؛ لكنها تخلو من الدفء الذي كنت أجده في صوت لوسيان دامبالي بومبتويه، الحكّاء الأفرووسطي.

العربية الفصيحة، آنذاك، لم تكن أكثر من ظلال تتراقص على حواف الذاكرة، موجودة لكن بعيدة، تُتلى في المساجد، تُقرأ في الكتب الصفراء؛ لكنها لا تمتزج بتفاصيل الحياة اليومية. حتى أنْ سافرتُ إلى الرياض لدراسة البكالوريوس.

هناك، قبل أنْ ألِج عالم التخصص، كان لا بُدّ أنْ أعبر من بوابة الدورات التحضيرية للغة العربية (معهد تعلم اللغة العربية)، وهناك وجدتُّني وجهاً لوجه أمام تحدٍّ جديد: كيف أكتب بالعربية؟

لم يكن الأمر سهلاً، فاللغة التي كنت أفهمها جيداً لم تكن تجري بسلاسة حين أُمْسِك القلم. في مقررات معهد اللغة، تعلمت أنّ الكتابة ليست مجرد نقل للكلمات؛ بل بناءٌ متقنٌ، كالنقش على الحجر. ولم يكن جُلّ زملائي مكترثين؛ بل اكتفوا بما يُقَدّم لهم في المعهد، أو هكذا خُيِّل لي؛ لكنني غرِقت في هذا العالم، جرّبت، وأخطأت، ثم تعلمت.

كانت هناك جهود خاصة بذلتها، ليس هذا مقام ذكرها؛ لكنها جعلتني أدرك أنّ الكتابة لها أسرار، ومن لم يسعَ إليها، ستظل كلماته جافة، بلا روح، بلا حياة. لكن، هل يكفي أنْ نتعلم القواعد حتى نحسن الكتابة؟

لا، كنت بحاجة إلى أكثر من ذلك، كنت بحاجة إلى أنْ أقرأ، أنْ أعيش مع النصوص العظيمة، أنْ أفهم كيف تنساب الجملة، كيف تصبح الفكرة صورة، وكيف يتحول الحرف إلى إحساس نابض بالحياة.

القراءة بعيون الكاتب لا القارئ

عندما قرأت لنجيب محفوظ، وجدت نفسي أسير في شوارع القاهرة كما لو كنت أعرفها، أسمع ضجيج المقاهي، وأشم رائحة العرق الممتزج بالغبار في أزقة الحارات الشعبية. كان سرده بسيطًا؛ لكنه عميق، يُحرك الأحداث كأنها مشاهد حية لا مجرد كلمات على الورق.

أما الطيب صالح، الأديب السوداني، فقد كان سرده مثل النيل، متدفقاً، متماوجاً، عميقاً، يخلط بين الفكرة والصورة في انسيابية لا تشعر بها إلا حين تنتهي من القراءة لتكتشف أنك لم تكن تقرأ؛ بل كنت تعيش النص.

لكن أكثر من أسرني بٍأسلوبه الفريد، مصطفى لطفي المنفلوطي، ذلك الكاتب الذي لم يكن يكتب؛ بل كان ينسج من الكلمات قطعاً أدبية خالدة، تمتزج فيها الفكرة بالعاطفة، والعقل بالقلب.

كنت أقرأه فلا أجد نفسي أمام نص جامد؛ بل أمام سيمفونية متكاملة؛ حيث كل جملة نغمة، وكل كلمة وتر يشد القلب إلى أعماق لا يصلها إلا القليل. تأمل معي قوله:

الأشقياء في الدنيا كثيرون، وأعظمهم شقاءً ذلك الحزين الصابر الذي قضت عليه ضرورةٌ من ضروريات الحياة أنْ يهبط بآلامه وأحزانه إلى قرارة نفسه فيودعها هناك، ثم يغلق دونها باباً من الصمت والكتمان، ثم يصعد إلى الناس باشَّ الوجه باسم الثغر متطلقًا متهللًا، كأنه لا يحمل بين جنبيه همًّا ولا كمدًا.”

أيّ بوح هذا؟ أيّ وصف للحزن الذي يتخفى تحت ستار الابتسامة؟ شعرت حين قرأتُ هذا النصّ أنني رأيت عشرات الوجوه، ابتسامات تخفي خلفها وجعاً، وعيونًا تحمل بحراً من الأسرار لا يُباح به.

كان المنفلوطي قادراً على أنْ يلمس فيك وتراً لا تعرف أنه موجود، يوقظ في قلبك شعوراً دفيناً، يضع أمامك مرآة، فتجد فيها نفسك دون أنْ تدري. هذا هو الكاتب الحقيقي، لا يصف فقط؛ بل يجعلك تشعر، يجعلك ترى، يجعلك تتألم وتبتسم في آنٍ واحدٍ.

الكتابة تمرين، لا انتظار للإلهام

في بداية رحلتي مع الكتابة، كنت أظنّ أنني بحاجة إلى لحظة إلهام، أنْ أجلس في مكان هادئ، يحيطني دفء الصباح، فأمسك القلم وأترك الكلمات تنساب بلا مجهود. لكنني سرعان ما أدركتُ أنّ الكتابة ليست لحظة انتظار؛ بل فعل إرادة، وأنّ الإلهام يأتي لمن يكتب، لا لمن يتأمل الورق الفارغ منتظراً.

وجدتُ أنّ العظماء لم يكونوا يكتبون لأنهم “أحسوا بالرغبة في الكتابة“؛ بل لأنهم التزموا بالكتابة، جعلوها عادة يومية، كما يتنفسون وكما يسيرون في الحياة. نجيب محفوظ، على سبيل المثال، لم يكن يؤمن بالكتابة المتقطعة؛ بل كان يكتب كل يوم، يضع نفسه في معركة مع الورق، لا يبرحها حتى يخرج منها منتصراً بجملة أو مشهد أو حتى فكرة قد تكتمل لاحقًا.

اكتشفت أنّ أفضل طريقة للكتابة هي أن تبدأ، أنْ تكتبَ أيّ شيء، حتى لو بدا سخيفاً، لأنك كلما كتبت أكثر، صارت الأفكار أكثر طواعية، وصار القلم أكثر مرونة. كنتُ أكتبُ مقالاتٍ قصيرة، ثم أعود إليها بعد أيام، فأجد أنّ بعضها غير واضح، أو أنّ هناك كلمات زائدة يمكن حذفها، أو أنّ بعض العبارات تحتاج إلى تعديل.

كل هذا كان جزءاً من التمرين، جزءاً من التعلم. فالكتابة ليست مهارة تولد مع الإنسان؛ بل مهارة تُبنى، وكل من يظن غير ذلك، لن يكون كاتباً؛ بل متفرجاً على الكتابة من بعيد.

لا تكتب بالعربية وأنت تفكر بلغة أخرى

أحد أكبر التحديات التي واجهتها كان التخلص من تأثير اللغات الأخرى. ففي السانغو نقول: “Ndjara asara mbi”.  الترجمة الحرفيةلها: “الجوع خلقني أو عمِلَني. لكنها لا تُفهم بهذا الشكل في العربية، لأنّ التراكيب مختلفة، والمعنى الصحيح هو “أنا جائع.

هذا الخطأ يقع فيه كثيرون ممن يحاولون الكتابة بالعربية وهم يفكرون بلغتهم الأصلية، فتخرج جملهم غريبة، متكسرة، كأنها ترجمة آلية وليست كتابة طبيعية.

الأمر نفسه يحدث مع من تأثروا بالفرنسية، فيكتب أحدهم: إنه بارد اليوم (Il fait froid)، بينما في العربية نقول ببساطة: “الطقس بارد.” أو من يقول: “أحتاج أن أقوم بالنوم، تأثرًا بالإنجليزية  (I need to sleep)، بينما الصياغة العربية الطبيعية هي: “أحتاج إلى النوم”، أو “أنا بحاجة إلى النوم”. هذه التفاصيل الصغيرة، حين تتراكم، تجعل النص يبدو ضعيفاً، متكلَّفاً، بعيداً عن روح اللغة.

لذلك، تعلمتُ أنْ أفكر بالعربية حين أكتب، لا أُترجم من لغة أخرى؛ لأنّ الكتابة الحقيقية تبدأ من التفكير الصحيح. الأمر نفسه أتَّبِعُه عندما أكتب بالإنجليزية أو لغة أخرى أفكر بها بدلا من العربية أو لغة مختلفة.

القاموس صديقك، لا عدوك

لطالما كنتُ أظنُّ أنّ الكاتب الجيد لا يحتاج إلى القاموس؛ لكنني كنت مخطئاً.  ذات مرّة، كنتُ أبحثُ عن كلمةٍ تصف الحرَّ الشديد، وكنت على وشك أنْ أكتبَ “الحرارة المرتفعة جدًا. لكنني بحثت، فوجدت كلمة واحدة تحمل كل هذا المعنى بدقة، الا وهي: “القيظ.

كان مصطفى لطفي المنفلوطي مثالاً رائعاً في هذا؛ لأنه كان ينتقي كلماته كما ينتقي الرسام ألوانه، يضع كل كلمة في موضعها كأنها جزء من لوحة فنية. كان يكتب بعمق وإحساس، يجعل الكلمة تُعَبِّر عن أكثر من معناها الظاهري.

اكْتُبْ لتُحِسّ، لا لتُدْهِشْ

في بداياتي، كنت أظنُّ أنني بحاجة إلى استخدام تراكيب معقدة، ومفردات ضخمة، حتى تبدو كتابتي “مبهرة”. لكنني أدركتُ لاحقًا أنّ الكتابة الجيدة ليست استعراضاً لغويّاً؛ بل إحساسٌ صادقٌ يصل إلى القارئ دون حاجز.

في هذا المضمار، كان الطيب صالح كان مثالاً حيّاً، لم يكن يكتب بجمل معقدة؛ لكنه كان يجعل لغته تتدفق كالنهر، بسيطة؛ لكنها مليئة بالحياة.

كان يجعلك تشعر بالمكان، بالأشخاص، بالمواقف، دون أن تحتاج إلى شروحات زائدة. وهذه هي الكتابة الحقيقية، ليست تلك التي تُبهرك بتراكيبها، بل تلك التي تجعلك تشعر، تفكر، وتعيش التجربة وكأنك كنت هناك.

ختامًا: الكتابة حياة، فاجعلها جزءًا منك

أنا أشاركك رحلتي، لأنني أعلم أنني لست الوحيد الذي مر بهذه التجربة. كثيرون يجدون أنفسهم بين لغتين، بين حديث طلق وقلم متردد. لكنني أدركت أنّ الكتابة ليست موهبة تُمنح؛ بل مهارة تُكتسب، بالوقت، بالممارسة، بالإصرار.

وأنت؟ ما هي تجربتك مع الكتابة؟ هل هناك دروس تعلمتها لم أذكرها هنا؟ لن تكون الكتابة حقيقية إنْ لم تكنْ حواراً بين العقول، فشاركنا رأيك؛ لأنّ الكلمة حين تُكتب، تظل حيّة، تُلْهِم غيرها، وتُشْعِل شرارةً لا تنطفئ.

_____________
للمزيد من هذا النوع من المقالات، رجاء تصفح تصنيف قطرات حبر من هنا

محمد زكريا

محمد زكريا

باحث دكتوراة في التمويل الإسلامي والاستثمار المؤثر، وصانع محتوى​ رقمي. مهتم بقضايا وسط إفريقيا الاقتصادية والاجتماعية.

المقالات: 17
error: Content is protected !!