أربعة أعواد وواحة من سراب .. تأملات في يوم العزّاب وعطش الانتماء

أربعة أعواد وواحة من سراب .. تأملات في يوم العزاب

في الحادي عشر من نوفمبر، حين تتعانق الأرقام كعصًا وحيدة في توالٍ مُهيب: 11/11، يحتفل الصينيون بيومٍ أطلقوا عليه “يوم العزاب“. عيدٌ وُلد من رحم الوحدة واحتفاءٍ بالأفراد الذين يمضون حياتهم منفردين، بلا شركاء، بلا فروعٍ تكتمل بها شجرة العائلة.

كانت البداية بسيطة، حين جلس أربعة شُبّان على مقاعد جامعة نانجينغ يتساءلون عن معنى الوحدة وطعمها، فابتكروا يوماً يكسرون فيه الرّتابة، يوماً ينثرون فيه عطر الحريّة، ووهج الاستقلالية.

لكن هذه الفكرة الصغيرة، النابعة من قلوبٍ تبحث عن عزاءٍ لمشهد الفراغ، سرعان ما تحوّلت إلى مهرجان استهلاكيٍّ تتهافت عليه الملايين، في إغراءٍ ناعمٍ بخصوماتٍ تتهاوى فيها الأسعار كأوراق خريفية.

هنا يقف العازب، وسط حُشودٍ تشتري وتُكدّس، يُغرق نفسه بين السلع؛ لعلّه يجد ما يُزيّن به عالمه الصغير. فالحرية التي يتغنى بها، وإنْ بدت في مظهرها باذخة، تُخفي وراءها برودةً؛ بل فراغاً صامتاً.

العازب، في عينيه بريقُ الترحال، ووهج الخيار، يمضي بين القرارات بحرية تامة، لا يقيده ميثاق عائلة، ولا يشدّه حبل مسؤولية. يُقْدِم على الحياة كفارسٍ جوّال يمتطي حصان الوهم، ويجرّب كل الطرق، ويختار ما يناسب مزاجه.

ولكن، ألم يفكر هذا الفارس في نهايات الطريق؟ في لحظة السكون التي يتساءل فيها عن صدى خطواته في وحدته؟ عن غياب صوتٍ يُكمل صوته، ويدٍ تُربّت على كتفه حين يثقله المسير؟

أما المتزوج، فهو في عوالم أخرى. هو ذلك الشخص الذي اختار ألا يمضي وحده، أنْ يبني بيتاً يظلّل عتبته الأمان، أنْ يحتضن دفْء العائلة في تفاصيل يومية لا تقدر بثمن. الزوج أو الزوجة ليسا مجرد عنوانين، إنهما مرساة تُثبّت الحياة، وشجرة تتفرّع، وتزهر مع كل صباح جديد.

المتزوج لا يشتري الأشياء لملء فراغ داخلي؛ بل ليفرَح بأعينٍ تنظر إليه بمحبة، وليرى في وجوه من حوله امتداد روحه. هو يعرف، في قلبه العميق، أنّ الحرية ليست غياب الروابط؛ بل هي الامتلاء بمعنى يمنحه الطمأنينة، وهو يعرف تماماً أنّ عمره يُنسج بتأنٍّ بين ضحكات الأطفال، ودفء الشريك.

المجتمع، في حكمته الصامتة، يُدرك الفرق. يرى العازب كفردٍ منفصل، ممتلئًا بنزعاته، مهوسا برغباته، متألقًا بفراغه، يسير كغريبٍ في حشْدٍ. أما المتزوج، فهو عماد المجتمع، نقطةٌ ترتكز عليها أجيالٌ قادمة، رجلٌ أو امرأةٌ اختارا أنْ يحمل كل منهما الآخر، ليُبنيا معاً أسرةً؛ بل مجتمعا امتدادًا لمعنى الحياة نفسها.

المتزوج في عين المجتمع يملك وجهاً متعدد الأبعاد، فيه الجدية وفيه الحنو، بينما العازب في كثيرٍ من الأحيان يبدو كوجهٍ عابر، كحكايةٍ تُروى لكنها لا تكتمل.

فإذا كانت الحرية للعازب وهماً يتشبّث به ليخفي به وحدته؛ فإنّ الزواج للمتزوجين هو الواقع الذي تُزينه الألفة، وهو الملاذ الذي يمنحهم سكينة عميقة. الحرية ليست غياباً عن العلاقات؛ بل هي حضورٌ عميقٌ في صلب علاقات متينةٍ، تُشيّد المعنى، وتبني الأثر.

فأيّ الطرق تفضلون أيها الأصدقاء؟ وتحت أيّ ظلٍ تسكنون؟

شاركونا حكاياتكم وآراءكم في هذا اليوم، مستخدمين هاشتاغ #يوم_العزاب، واكتبوا  كيف تلمسون معنى حياتكم في ظلّ الوحدة (عازب) أو في واحات دفء الأسرة (متزوج).

محمد زكريا

محمد زكريا

باحث دكتوراة في التمويل الإسلامي والاستثمار المؤثر، وصانع محتوى​ رقمي. مهتم بقضايا وسط إفريقيا الاقتصادية والاجتماعية.

المقالات: 12
error: Content is protected !!