ميزان الحياة دخل عابر واستهلاك زائل وادخار حكيم وإنفاق خالد

ميزان الحياة .. دخل عابر واستهلاك زائل وادخار حكيم وإنفاق خالد

كان السوق غامضًا لا يُعرف له موضع، كأنّه صورة معلّقة بين الأرض والسماء، لا يحدّه مكانٌ ولا يقبض عليه زمانٌ. هواؤه مثقلٌ بغبارٍ ناعم يرقص مع خيوط الشمس المائلة إلى المغيب، فتبدو الطرقات كأنها منسوجة بخيوطٍ ذهبية يتلألأ فوقها الناس، رجالٌ يساومون على قُوتٍ، نساءٌ يحملن أعباء البيوتِ، وأطفالٌ يتقافزون بخفّة العصافير ثم يختفون في الزحام.

وفي خضمّ هذا المشهد المزدحم، دخل أربعة غرباء. لم يسبق أن رآهم أحد، ولم يعرف أحدٌ من أين جاؤوا. كان لكلٍّ منهم سَمْتٌ يخالف صاحبه. أحدهم قصير المكوث، يتردّد كطيفٍ يظهر ثم يزول، في يده جرّةٌ يملؤها لبرهةٍ ثم تفرغ سريعًا. وآخرُ ضاحك الوجه، صاخب الصوت، يوزّع ما يصل إليه بلا حساب، يرقص بين الأكشاك كأنّه شعلةٌ من لهوٍ لا تعرف السكون.

وثالثٌ جلس على طرف السوق، بعيدًا عن الضجيج، مطرقًا برأسه، يجمع ما تناثر هنا وهناك ليُودعه في صندوقٍ صغير، لا يفتح ولا يُري؛ بل يكتفي بالسكوت. أما الرابع، فكان ذا طَلعةٍ مهيبة، تتلألأ في وجهه أنوار الطمأنينة، يمدّ يديه للناس فيعطي بلا تردّد، وكلما أعطى بدا كأن ما عنده يتضاعف.

وقف الناس مأخوذين بالمشهد، يحدّقون في الغرباء الأربعة وقد التفّ الغموض حولهم. ثم إذا بهم [الغرباء] يتبادلون حديثًا سرّيًا، يسمعه من دنا منهم.

قال الأول بصوتٍ مُتْعب:

إنني آتيكم من عَرَقكم وكَدّكم، أجيء كل يوم لأملأ الجرّة، ثم أفنى سريعًا، فلا أملك بقاءً ولا دوامًا.”

وقال الثاني وهو يضحك:

أما أنا، فأُذيب ما يأتيكم في لذةٍ عاجلة، أجعل لحظتكم نشوةً وإن تركتُ غدكم خواءً.

وقال الثالث بهدوء:

وأنا من يلتقط القليل مهما قلّ، ويخبئه بصبرٍ طويل، لا أُسعفكم في الرخاء ولكنني أكون عونكم في الضيق.”

وقال الرابع بوقارٍ يملأ المكان:

أمّا أنا، فلا أدّخر لكم في الدنيا، إنما أحمل ما تعطون إلى حيث لا تنفد خزائن، ولا تفنى الأرصدة. أنا أنفق في الظاهر، لكنني أكنز لكم في الغيب.”

وما لبث أن تبدّل الحال، فانطفأ الأول حين فرغت جرّته واختفى، وذابت ضحكات الثاني مع غبار السوق، وفتح الثالث صندوقه فإذا به ممتلئ؛ لكن يده ارتجفت قبل أنْ يمنح ما فيه. وحده الرابع ظلّ واقفًا، يوزّع بلا انقطاع، وكلما جاد بما عنده بدا أغنى وأوسع.

ثم غاب الأربعة كما ظهروا، تاركين خلفهم صمتًا يثقل النفوس. لم يبقَ سوى أصداء كلماتٍ ترددت في أسماع الناس: “من لم يُحسن التوازن بيننا عاش فقيرًا ولو اغتنى، وضاع وإن ملك الدنيا بأسرها.”

هنالك فقط أدرك الناس أنهم كانوا أمام رموزٍ تتجسّد في حياتهم كلّ يوم، وهي:

  • الأول هو الدخل: ثمرة السعي والكدّ، لا يستقرّ في يدٍ إلا برهةً ثم يزول، وهو قِوام الحياة، لكنه يحتاج إلى مصدرٍ طيّب، وإلى حلٍّ مشروع، كي يكون نعمةً لا وبالًا. الدخل كالزرع، إن سُقي بماءٍ طاهر أخرج ثمرًا نافعًا، وإن غُذّي بالحرام جفّت عروقه وإن بدا مورقًا.
  • الثاني هو الاستهلاك: وجه اللذة العاجلة، يملأ اللحظة نشوةً، لكنه إن تُرك بغير ضبطٍ أفرغ الجرّة وأبقى وراءه فراغًا. هو ضرورة لا غنى عنها، لكن فضيلته في الاعتدال، فلا إسراف يورث فقراً، ولا تقتير يحجب عن النفس حقّها.
  • الثالث هو الادخار: صندوق الصبر والأناة، يحفظ الفتات حتى يصير جبلًا، ويُقيم الجدار حين تشتدّ الرياح. لا يُطلب منه أن يكون بديلاً عن الاستهلاك؛ بل أن يكون شريكًا له، يضبط الميزان ويؤمّن الغد.
  • الرابع هو الإنفاق الخيري: ذلك السرّ الذي لا يدركه كل قلب؛ يُنفق في الظاهر فيظنه الناس نقصًا؛ لكنه عند الله زيادةٌ وبركة. هو ادخارٌ في خزائن الغيب، لا تنقصه يد، ولا يبليه الزمان. فيه معنى التكافل الذي تبنى به المجتمعات، وفيه الأجر الذي تتشوّف إليه الأرواح. ألم يقل الحكماء: “ما نقص مالٌ من صدقة”؟

وعرفوا أن سرّ العمران في الفرد كما في الأمم، إنما يقوم على هذه الأربعة متى وُضع كلٌّ في موضعه؛ دخلٌ طيبٌ حلال، واستهلاكٌ رشيد، وادخارٌ متّزن، وإنفاقٌ خيريّ يتجاوز حدود الأرض إلى رحابة السماء. فأمّةٌ وازنت بين هذه الأركان أقامت حضارتها على صخرةٍ ثابتة، وأمّةٌ أخلّت بأحدها عاشت متخبطة، وإن ملكت من الذهب ما يملأ البصائر بريقًا.

وهكذا بقيت الحكمة: “أنّ الغنى ليس في ما تملك اليد؛ ولكنْ في ما يُزكّيه القلب ويُحسن الإنسان توجيهه.” فمن جمع المال بلا ضابطٍ أرهقه، ومن أنفقه بلا بصيرةٍ أهلكه، ومن ادّخره بلا رحمةٍ جمّده، أما من أحسن التوازن بينهم جميعًا، فقد عرف معنى الثروة الحقّة، التي تصنع للأفراد أمانًا، وللأمم بقاءً، وللإنسانية كلها حياةً أرحب وأكرم.

ولكي يزداد المعنى وضوحًا، وتتجلى الحكمة في ألفاظٍ موجزة جامعة، فهذه خلاصة القول في خمس عبارات، هي كالدرر المضيئة بعد عقدٍ طويل من البيان:

  1. الدخل نعمة لا تدوم، لا يباركها إلا طِيبُ مصدرها وصفاء كسبها.
  2. الاستهلاك بهجةٌ لا غنى عنها، غير أنّ الاعتدال زينتها والإسراف مَقتلها.
  3. الادخار صبرٌ على القليل ليصير كثيرًا، وجدارٌ يُقام في وجه تقلبات الغد.
  4. الإنفاق الخيري نفقةٌ تُنقص المال ظاهرًا وتزيده باطنًا، وهو الادخار الأبدي في خزائن لا تفنى.
  5. إنّ توازن هذه الأربعة هو سرّ العمران في الأفراد والأمم، ومن أخلّ بها عاش فقيرًا ولو غَمَرته الأموال.

إذنْ، فليتأمل القارئ في هذه المعاني، وليزن بها نفسه وحياته، فما أكثر ما يختلف الناس في ترتيب هذه الأركان، وما أعمق ما تكشفه اختياراتهم من حقيقة نظرتهم إلى الدنيا والآخرة… فكيف ترون أنتم موضع كل واحدٍ من هؤلاء الأربعة في موازينكم؟

شاركوني آراءكم لنثري النقاش حولها!

_________
مطار أديس أبابا
05 سبتمبر 2025م

Share your love
محمد زكريا فضل

محمد زكريا فضل

باحث دكتوراه في الاقتصاد الإسلامي والتمويل، متخصص في التمويل الأخضر (الصكوك الخضراء)، ومهتم بقضايا إفريقيا الاقتصادية.

Articles: 18
error: Content is protected !!