في لحظة تأملية، وأنا أتابع نتائج انتخابات السنغال 2024م؛ حيث بَسِيرُو جُومَاي فايْ ينسج من الحلول الاقتصادية عباءةَ برنامجه الانتخابي، غمرتني أمواجٌ من الذكريات تعود بي إلى سنتي الأولى في دراسة الاقتصاد. كانت سنةً تعلمت فيها أنّ الحياة نفسها مبنية على مبادئ الطلب والعرض، وأنّ مرونة السعر لا تُقاس فقط في الأسواق؛ بل في قدرتنا على التّكيُّف والتكيف مع تقلبات الحياة.
أذكر كيف أنّ نظرية المستهلك، ونظرية المُنتِج لم تكونا مجرد فصول دراسية؛ بل كانتا دروساً في فنّ التوازن بين رغباتنا وإمكانياتنا، وكيف أنّ تكاليف الإنتاج لا تقتصر على المصانع؛ بل تمتد لتشمل جهْد كلّ خطوة نخطوها نحو تحقيق أهدافنا وعرقها. ومن ثَمّ، تلك الهياكل السوقية المتنوعة من المنافسة الكاملة إلى الاحتكار، تعلمت كيف أنّ الحياة تضعنا أحياناً في مواجهة تحدياتٍ شبيهة بالمنافسة الاحتكارية، أو حتى الاحتكار الثنائي؛ حيث يُصبِح التعاون وفهم نظرية الألعاب مفتاحاً للنجاة والازدهار.
تحليل السوق لم يكن أبداً مقتصراً على الأعمال؛ بل كان أداةً لفهم كيف تتشكل قراراتنا في مواجهة الاختيار تحت الشك والاختبار، وكيف أنّ الخارجيات والمنافع العامة تتداخل لتُشَكّل نسيج حياتنا المعقد. علمتني نظرية العقود أنّ كل خطوة نخطوها، كل قرار نقرره، هو بمثابة عقد معقود مع الذات أو مع الآخرين، محمل بثقل التبعات والمسؤوليات، كأوراق الخريف التي تتساقط، لكل واحدة قصة ووجهة.
هذا المفهوم العميق يشمل كافة تفاصيل الوجود، إذْ ينسج من التفاهمات الصامتة، والوعود المعلنة، نسيجّ حياتنا المعقد. لكن، بين خيوط هذا النسيج وجذوره، يبرز التحذير الصامت، كهمس الليل العميق: العقود ليست أبوابًا مفتوحة للريح تعبث كيفما تشاء، فلا يتسع مفهومها للاستغلال باسم الالتزامات الوهمية، أو الاحتكارات المتخفية وراء مسميات براقة. في جوهرها، تبقى العقود دعوة للعدالة والتوازن، شراعا يقود سفينتنا في بحر الحياة، بعيدا عن صخور الاستغلال الخفية.
أمّا الرفاهية الاقتصادية، وتحليل الفشل السوقي، فقد ألهمتني للبحث عن طرق لتقليص الفجوات، وإيجاد حلول للمشكلات التي تواجه مجتمعاتنا، تماما كما يسعى بَسِيرُو جُوماي فايْ لتحقيق ذلك في السنغال. وها أنا، أرى في تسعير الموارد، وتخصيصها ليس فقط مسألة اقتصادية؛ بل فلسفة حياة، تعلمنا كيف نُقَيّم ما نملك، ونوزعه بحكمة لتحقيق أقصى استفادة.
في هذه اللحظة، وأنا أتأمل مسيرة شيخ الشباب السنغالي، بسيرو فاي، أتذكر دروسي الأولى في الاقتصاد، أُدْرِك كيف أنّ الاقتصاد ليس مجرد دراسةً للأرقام والنظريات؛ بل هو فنّ التوازن في الحياة نفسها.
ها أنا، على أعتاب خاتمة تأملاتي في عالم الاقتصاد الواسع، تسرّب إلى ذاكرتي طيْفُ زميل الدراسة والتخصص، مورتالا لو، ذو الروح السنغالية الحرة المرحة، التي تشهد الآن لحظات تاريخية في شوارع داكار وأزقتها. كان “لُو” بروحه المرحة، وابتسامته التي لا تفارق محياه، يُلَطّف الأجواء عندما تتعكر وتتلوث بطلاسم الرياضيات، والرسوم البيانية أثناء مدارستنا للمواد المشتركة في إحدى القاعات أو الغرف في جامعة الإمام محمد بن سعود وقت ذاك، و ويتنقل بنا بنكته المختلفة والمفاجئة إلى عوالم أخرى. أتساءل، الآن، عن النّبْض الذي يجري في قلبه وهو يرى بلده يتشكل ويتحول أمام عيون العالم.
وفي هذه اللحظات المتسارعة، أتذكر أيضاً رفيق الغربة، الصديق البعيد القريب، “عبدَهْ كان“، ذاك الحقوقي الشرعي، والمحلل السياسي الذي كان يملأ فناءات الجامعة الإسلامية بماليزيا بخطاه الواثقة، وروحه النهمة للمعرفة. عبدَهْ، الذي كان يتذمر أحيانا من طرق التدريس من بعض المؤطرين والتي لم تعجبه؛ فإنّ حبه للقانون، وعشقه للبرامج الأكاديمية كانا يغذيان روحه وعقله، ويسليانه، فتجده مُقْبلاً لطلب العلا غير مُدْبِر، ومُقدماُ لمساعدة الآخرين غيرُ مُحْجِم فقط!
كلاهما، مورتالا وعبدَه، كانا يمُدّاني بإلهامٍ لا ينضَب، وفَهْمٍ عميقٍ للأحداث الجارية في بلدانهم، مانحيني الشعور بأنني جزء من تلك اللحظات التاريخية. عبْدَهْ، بحديثه المتواصل، وتحليلاته العميقة، كان يجعلني أعيش أحداث انتخابات السنغال وكأني هناك، في قلب الحدث، متنفِّساً نفْس الهواء المشبّع بالتوقعات والآمال.
والآن، بينما تنسج السنغال فصولاً جديدة من تاريخها، أجد نفسي محاطًا بمعارفي عن بُعْدٍ، وبدروسي في الاقتصاد، التي تُقدّم لي ليس فقط فهما للأرقام والنظريات؛ بل رؤىً عميقة لكيفية تأثير هذه المفاهيم على الحياة الواقعية للشعوب والأفراد. إنها لحظةٌ تتجاوز فيها الأفكار الاقتصادية حدود الكتب والمحاضرات؛ لتصبح جزءًا لا يتجزأ من نسيج الحياة الاجتماعية والسياسية.
في هذا الأفق المتسع من الأحلام والتطلعات، أُدْرِكُ أنّ القصّة لم تنتهِ بعد. فمع كل خطوةٍ يخطوها أصدقائي نحو المستقبل، ومع كل تحليل اقتصادي يفسر الواقع، أشعر بأننا نُسْهم في نسج خيوط الغد. فالخاتمة هنا ليست سوى بداية جديدة، وعدٌ بأنّ كل ما تعلمناه سيكون الضوءَ الذي يُنير دروبنا في رحلتنا نحو فهمٍ أعمقٍ لعالمنا المتغير.
وأخيرا وليس آخرا، إن لم تجد ضالتك بين سطوري، وشعرت بأن النهاية جاءت متسرعة، لم تروِ عطش فضولك المعرفي، فأعتذر من قلب يحمل أملًا بأن تجد في محبرتي المستقبلية، بين ثنايا الكلمات والحروف، ما قد يسكن غليلك ويعانق توقعاتك بكل رقة وعمق.