ما أصعب أن تحبّ قلمًا، لا لأنك قرأته فاستحسنته؛ بل لأنك شعرتَ أنه يتحدّث عنك، يكتبك قبل أن تكتب، ويترجم خلجات نفسك وأنت تحسبها سرّاً لم يطلع عليه أحدٌ غيرك!
ذلك القلم الذي تنظر إليه لا ككاتب من ورق؛ بل كصديق قديم يربّت على كتفك حين تضيق بك الدنيا، ويهتف بك إذا استبدّ بك اليأس، وينظر إليك نظرة العاتب الحنون إذا هممتَ أن تفرّ من ميدان الفضيلة إلى متاهات الدُّنيا المعتمة.
كم مرة قرأتُ كلماته، فإذا بي أتوقف كمن وجد في الطريق شيئاً ثميناً لا يملك أنْ يمرّ عنه مرور العابرين؟ كم مرة شعرتُ أنني لم أكن أقرأ فحسب؛ بل كنتُ أحيا بين السطور، كأنّ تلك الأوراق ليست إلا مرآة تعكس وجداني، وتكشف عني ما خفي؟
يحدث ذلك كلّما انساب أمام ناظري حرفٌ كتبه هذا الرجل، الذي لا يُمسك القلم بيده فقط؛ بل بقلبه، بروحه، بحزنه النبيل وفرحه العفيف. فلا أملك إلا أنْ أتمنى لو اقتربتُ قليلًا من هذا الصفاء، لو لامستُ بأسلوبي هذا البهاء، لو كتبتُ يوماً جملةً واحدة، تكون في صدقها وحرارتها وظلالها امتداداً ولو شاحباً لحرفه الذي لا يُشبهه حرف.
حين يصبح الحرف قلباً نابضاً
أتذكّر حين قرأتُ له أول مرة. كانت قصة بسيطة، تحكي عن فقيرٍ نظر في واجهة محلٍّ فخم، فأبصر أطفال الأغنياء يعبثون بما يحلم بالحصول عليه. لم يكن في المشهد شيءٌ جديدٌ، فكم من فقيرٍ ينظر، وكم من غنيّ يملك ولا يدري. ولكنّه، بأسلوبه الذي يشبه ضوء الفجر حين يتسلّل إلى قلب الظلام، جعلني أرى ما لم أره من قبل: تلك النظرة الكسيرة في عين الفقير، تلك الغصّة الصامتة في حلقه، تلك اليد التي امتدتْ لتتحسس الثوب البالي وكأنها تعتذر عن حالها، ذلك الرجوع المتثاقل كأنما يحمل ظهره همّ الحياة كلها.
أترى؟ لم يكن الأمر حكايةٌ تُروى؛ بل إحساساً يُنقل إليك دون أنْ تدري كيف تسلّل إلى قلبك. لهذا تمنّيتُ لو أكتب مثله، لو أستطيع أنْ أجعل القارئ لا يكتفي بفهم المعنى؛ بل يشعر به، يذوقه كما يُذاق الطِّيب، ويتأمله كما يُتأمل وجه الأحباب حين يطول الفراق.
حين يصير الحب أنشودة من الألم العفيف
ما زلت أذكر ذلك المشهد الذي لم يزل محفوراً في ذاكرتي كأنه نقشٌ على صفحة الروح. كان الشاب جالساً على مقعده الخشبي، في زاوية ذلك المقهى الهادئ، تتساقط الأوراق الصفراء من شجرة الزيزفون فوق رأسه، وهو يقرأ الرسالة التي انتظرها عمراً، فإذا بها تحمل خبراً كأنه سهم اخترق فؤاده. كانت معشوقته قد كُتبت لغيره، وكان عليه أنْ يبتلع دمعته كما يبتلع المحكوم كأس السمّ وهو يبتسم للعالم كي لا يشفق عليه أحد.
كم من مرة تساءلتُ: أيّ حبٍّ هذا الذي ينمو في القلب كزهرة بريّة، ثم لا يكون له نصيب إلا الذبول؟ أيّ شقاء ذاك الذي يبتسم فيه الحبيب لحبيبه وهو يرى السعادة تهرب من يديه إلى يد غيره؟ وكيف استطاع الكاتب أنْ يصوّر ذلك الألم النبيل، دون أنْ يحيله صخباً أو جنوناً؛ بل جعله حبّاً صامتاً، يشتعل كجمرة تحت الرماد، لا يحترق بها إلا صاحبها؟
لم يكن ذلك المشهد مجرد قصة عاطفية؛ بل كان مرآة رأيتُ فيها الحب كما لم أره من قبل: ليس هو ذاك الذي يصرخ ويثور ويطلب؛ بل هو ذاك الذي يعطي ويصبر ويرحل مخلّفاً دعوة صادقة في ظهر الغيب، وألماً خفيّاً لا يبوح به إلا حين ينفرد بنفسه في ظلال الزيزفون حيث لا يسمعه أحد.
حرف يُبكيك ثم يترك في قلبك نورًا
ليس غريباً أنْ يبكيك حرفٌ، ولكن الأعجب أنْ يُبكيك ثم يجعلك أقوى، أنْ يُحزنك ثم يترك في قلبك نوراً لا ينطفئ. من منّا لم يقرأ له قصة ذاك الفتى الذي عاد إلى قريته بعد غيابٍ طويل، ليجد أمه قد كفّ بصرها، وعيناها تبحثان عنه في العدم، فلا تراهما إلا كبحرين جفّت مياههما من طول الانتظار؟ ومن منّا لم يشعر، وهو يقرأ، وكأنّ قلبه صار صفحة يتلو عليها الزمن ما لم يتله من قبل؟
ذلك هو الفنّ الذي أُحِبّ، والكلمة التي أسعى إليها، أنْ أكتب فلا أكون مجرد ناقلٍ لحكاية؛ بل صانعاً لصورة، راسماً لمشهد، باعثاً لروحٍ في كل سطر. أريد أنْ أقترب من ذلك النفس، لا لأنني أظنّ أنني سأبلغه؛ ولكن لأنّ السعيَ إليه هو السعيُ إلى الكتابة في أنبل صورها، إلى الحرف الذي يكون فيه الصدق سيّداً، والحزن نبيلاً، والجمالُ نقيّاً كقطرة ندى على خدّ وردةٍ عند مطلع الفجر.
حين يكون الكاتبُ رسالةً قبل أنْ يكون قلماً
ما قيمة الكاتب إنْ لم تكن رسالته أسمى من كلماته؟ إنْ لم يكن أدبه مداداً للأخلاق قبل أنْ يكون زينةً للّغة؟ لهذا أحببتُ ذلك الكاتب، ولهذا تمنيتُ لو خطوتُ خطوة في دربه، ليس لأكون مثله، فذلك شرفٌ لا أدّعيه؛ ولكنْ لأحمل في قلمي بعضاً من تلك الروح، بعضاً من ذلك النور، بعضاً من ذاك الوفاء للكلمة حين تُكتبُ لا للعرض والتكسُّب؛ بل لتكون ضوءاً في ليل القلوب المعتم.
وأيّ كاتبٍ هذا الذي أتحدث عنه؟ إنه الأديب الذي لم يكتب بالحبر؛ بل كتب بالدمع، ولم يصنع من اللغة قصرًا من زخارف الكلمات؛ بل صنع منها قلباً نابضاً يُحِسّ ويُحَسّ به. إنه الكاتب الذي كان يبكي وهو يكتب، فيبكي القارئ وهو يقرأ، الكاتب الذي مزج بين الأدب والفضيلة، وبين الجمال والنُبل، وبين الحزن والطُهر، حتى صار اسمه علامة فارقة في سماء الأدب.
إنه الأديب الأريب مصطفى لطفي المنفلوطي، ذاك الذي لم يكن أديباً فحسب؛ بل كان ضميراً ناطقاً، وعيناً دامعةً، وقلباً لم يعرف إلا النبل، فعاش فارساً للكلمة، ورحل تاركاً وراءه أثراً لا يُمحى، وروحاً لا تزال تسكن بين السطور.
____________
للمزيد من هذا الوع من المقالاتـ رجاء تصفح تصنيف قطرات حبر من هنا