حين يُفْقَدُ جواز السفر في بلدٍ بعيد

حين يُفْقَدُ جواز السفر في بلدٍ بعيد

جواز السفر، ذلك الكتيب الصغير الذي يحمل في طياته أكثر مما تبدو عليه صفحاته المتواضعة، يُعدُّ في عصرنا الحديث مفتاحاً لا غنى عنه لولوج عوالم شتى. هو رمز للحرية، وشهادة على الهوية، وجسر يربط بين الثقافات والشعوب.

في عالمنا اليوم المتشابك؛ حيث تتقارب المسافات، وتتداخل المصالح، يُصبح جواز السفر أداة حيوية للتنقل والتعرف على العالم. إنه تصريح بالعبور إلى تجارب جديدة، ونافذة تُفتح على بساتين من المعرفة والتنوع الثقافي.

ينظر الناس عادةً إلى جواز السفر على أنه أكثر من مجرد وثيقة رسمية؛ إنه هوية متنقلة، وعنوان للأمان، والانتماء في الأراضي الغريبة.

ففي كل ختم يُضاف، تُكتب صفحة جديدة في دفتر الذكريات، وفي كل مطار يُمَرّ به، يُستشعر نبض الحياة في ركن آخر من الأرض. أهميته تتزايد يوماً بعد يوم، ففي زمن الأزمات يصبح المنقذ، وفي زمن السلم يكون الرفيق الأمين في مغامرات البحث عن العلم والعمل.

جواز السفر، رغم بساطته، يحمل ثقلاً عظيماً في حياة كل فرد، ويروي حكايات الأمان والانتماء والحرية. هنا سأشاركك حكاية طريفة لطيفة حصلت لي قبل بضع سنوات مضت!

لحظة فقدان جواز السفر

في إحدى تلك الأيام، تجسدت أهمية جواز السفر في حياتي بطريقة لم أكن لأتوقعها. ففي ذلك المساء الهادئ، حيث كانت سماء كوالالمبور تحتضن سُحُباً رماديّةً تُبشر بمطرٍ على وشك الهطول، كنت أخطو خطواتي المعتادة نحو مبنى كلية الاقتصاد والعلوم الإدارية في الجامعة الإسلامية العالمية بماليزيا.

كنت يومها قد أنهيت للتو معاملتي في مكتب الجوازات، ومن ثم اتجهت إلى قسم التمويل لإتمام بعض الإجراءات. كان يوماً طويلاً؛ لكنني كنت متحمساً لإنهاء مهامي والعودة إلى سكني الذي يتربع تلة صغيرة في محلّة “صلاح الدين الأيوبي”.

عندما عُدتّ إلى غرفتي، بدأت أفكر في مهام اليوم، وكيف كانت الإجراءات غير سلسة رغم بساطة الأمكان والموظفين. لكن، وفي خضم تلك الأفكار، أدركت فجأة أن جواز السفر ليس في مكانه المعتاد. شعرت بقلق عارمٍ يجتاح كياني. تفحصت كل زاوية في الغرفة، قلبت الفراش، بحثت في حقيبتي مراراً وتكراراً؛ لكن دون جدوى.

بدأت الأفكار القاتمة تتدفق إلى ذهني من كل صوبٍ. كيف سأتمكن من استخراج جواز سفر جديد وأنا في بلد ليس فيه سفارة لجمهورية إفريقيا الوسطى، ولا سفارة لماليزيا في بلادي؟ كيف سأتمكن من السفر؟ وما الوثيقة التي ستحل محل جوازي المفقود؟ كنت أعلم أن إصدار جواز جديد يستدعي وجودي في بلادي، ورحلة العودة تتطلب عبور عدة دول، وقد تستغرق أكثر من 24 ساعة؛ حيث تبعد المسافة بين بلدي وبلد الإقامة 9219 كم (5728 ميلاً). كيف سأتحمل تكاليف السفر وكل هذه المعاناة؟

بالفعل، كانت الليلة مظلمة كعادة الأجواء الاستوائية، وكأنها تعكس حالي الملتاع. حينها، جلست مع نفسي، متسائلاً، كيف أترك للضعف سبيلاً إليّ؟ أدركتُ أن لا ملجأ لي إلا إلى علام الغيوب، فوكّلت أمري إليه سبحانه، واستسلمت لرحمته التي وسعت كل شيء، لعله يفرجها بميلاد يوم جديد!

مرّتِ الساعات بطيئة، كأنّ الزمن توقف ليستمتع بمعاناتي. وفي صباح اليوم التالي، بينما كنت غارقاً في أفكاري القاتمة، رنّ هاتفي الخلويّ فجأة. كان الرقم غريباً. أجبت بترددٍ، وإذا بصوت عربي ذو لهجة مألوفة لديّ وعايشت أهلها لسنوات طوال، يسأل بعد التحية والسلام:

– هل معي محمد زكريا؟”
– أجبت بصوتٍ غير مبالٍ … “نعم، من معي لو سمحت؟”.

– أنا عبد العزيز البلوشي، لقيت جواز سفرك طايح في كلية الاقتصاد. لما شفت الصورة عرفتك وبحثت عن رقمك.

لم أصدق أذني، وكانت فرحتي لا توصف. اتفقنا على موعد، وانطلقت فوراً لملاقاته. عندما التقيت به، كان شاباً وسيماً، وديع الطبع، يمتلك من الأخلاق ما يجعلك ترتاح له من المرة الأولى، ولا تفارق محياه الابتسامة العفوية.

ناولني إيّاه مبتسماً: “هذا جواز سفرك“… بادرته: “الحمد لله أنت لقيته قبل لا يطيح بيد أحد ما يخاف الله“. شكرته بحرارة، ودعوت له كثيراً، ثم غادرت شاكرا الله الذي ردّ إليّ ضالتي. تلك اللحظة أعادت لي الأمل، وأزالت عني جبال الهموم التي كانت تثقل كاهلي.

فمنذ ذلك اليوم، كلما نظرت إلى جواز السفر الخاص بي، تذكرت عبد العزيز البلوشي، ذلك الشاب الشهم، ذو الابتسامة الدائمة، والأخلاق الرفيعة، الذي أعاد لي جزءاً من روحي التي مزقتها الهموم، وسأظل داعيا له بالخير والتوفيق ماحييت.

فعلاً، كانت تلك اللحظة التي علّمتني أن العالم ما زال بخير، وأنّ الأمل قد يأتي من حيث لا نحتسب، وأنّ الخير يسكن في قلوب الناس الطيبة مثل الأستاذ عبد العزيز.

وبينما تجرفني شواغل الحياة اليومية بعيدًا عن تلك اللحظة، أدرك في قرارة نفسي أنه، مهما كانت الظروف قاسية، سيظل الخير موجودًا دائمًا. فالأمل لا يموت، ويجب أن نلجأ دائمًا وأبدًا إلى علام الغيوب ذي الطول، لا إله إلا هو إليه المصير.

يمكنك تصفح مدونتي الخاصة من هنا

محمد زكريا

محمد زكريا

باحث دكتوراة في التمويل الإسلامي والاستثمار المؤثر، وصانع محتوى​ رقمي. مهتم بقضايا وسط إفريقيا الاقتصادية والاجتماعية.

المقالات: 11
error: Content is protected !!