اتحاد الساحل والإيكواس

بين تقرير صندوق النقد الدولي وقرار تشاد: هل يستطيع اتحاد الساحل والإيكواس مواجهة التحديات المصيرية؟

هذا المقال، قراءة سريعة في تقرير “آفاق الاقتصاد العالمي لصندوق النقد الدولي” حول الأداء الاقتصادي لاتحاد الساحل والإيكواس، وقرار تشاد بإنهاء اتفاقية الدفاع العسكري مع فرنسا وتحديات التعاون الإقليمي.


إنّ فَهم الأداء الاقتصادي لاتحاد الساحل والإيكواس؛ بل ومنطقة أفريقيا جنوب الصحراء يُعَدُّ أمراً بالغ الأهمية لتقييم قدرة المنطقة على الصمود، وتعزيز إمكاناتها في ظل مشهد عالمي ديناميكي ومتغير.

إذْ يمثل اتحاد الساحل، الذي أسّس رسميّاً في 6 يوليو 2024م من خلال توقيع ميثاق ليبتاكو-غورما، من قبل بوركينا فاسو ومالي والنيجر، خطوة محورية لمعالجة التحديات المشتركة.

ويمتد هذا الاتحاد على أراضي تبلغ مساحتها 2,781,392 كيلومتر مربع، ويضم سكاناً يبلغ عددهم 71.4 مليون نسمة (2024) بكثافة سكانية تصل إلى 25.7 شخص لكل كم مربّع. ويهدف الاتحاد إلى تعزيز الدفاع العسكري والأمني المشترك، وتعزيز التعاون الاقتصادي، وتحقيق الاستقرار السياسي. وحسب بيان التأسيس، تُعد هذه الجهود ضرورية لمنطقة تعاني تاريخيًا من التمرد، وضعف الحوكمة، والتحديات المناخية.

وعوداً إلى الأداء الاقتصادي، فإنّ تقرير صندوق النقد الدولي الموسوم بـ “إصلاحات وسط توقعات كبيرة” الذي نشر في شهر نوفمبر المنصرم، ضمن تقاريره الدورية، رؤى رئيسة حول المسارات الاقتصادية لدول أفريقيا جنوب الصحراء، مع التركيز بشكل خاص على اتحاد الساحل، ومقارنته بدول الإيكواس.

حيث تُعدّ المؤشرات الاقتصادية، مثل توقعات الناتج المحلي الإجمالي، أدوات حيوية لصناع السياسات، والمستثمرين، والمنظمات الدولية؛ للتعامل مع التحديات واغتنام فرص التنمية. ونناء عليه، تهدف هذه التدوينة إلى استعراض الأداء الاقتصادي لاتحاد الساحل والإيكواس وفق تقرير صندوق النقد الدولي، مع مناقشة حقيقة قرار تشاد بإنهاء تعاونها العسكري مع فرنسا وتأثره على التحالفات الإقليمية. كما تسلط القراءةُ السريعةُ الضوءَ على فرص النمو والتحديات الأمنية والجيوسياسية التي تواجه التعاون الإقليمي في أفريقيا جنوب الصحراء.

اتجاهات النمو الاقتصادي لاتحاد الساحل والإيكواس

تعكس التوقعات الاقتصادية لاتحاد الساحل والإيكواس مزيجا من الصمود والطموح. حيث تقود النيجر المجموعتين بتوقعات نمو ملفتة للنظر ومثيرة للاهتمام، إذْ بلغتْ 9.9٪  في عام 2024، مما يشير إلى العوائد المحتملة للاستثمارات المستهدفة، والتنمية القائمة على الموارد. في حين سجلتْ كلٌّ منْ بوركينا فاسو ومالي نموا أكثر استقرار، مع توقع وصولهما إلى 5.8٪  بحلول عام 2025، مما يظهر اتساقاً على الرغم من التحديات المستمرة المتعلقة بالحكم والأمن.

في المقابل، تعرض دول الإيكواس سرداً اقتصاديّاً أوسع؛ ولكن غير متوازن. لا تزال نيجيريا، أكبر اقتصاد في الكتلة، تعاني من اختلالات هيكلية، مما يحدّ من نموها إلى نسبةٍ متواضعةٍ بلغتْ 2.9٪  في عام 2024. وبالمثل، تواجه غانا تحدياتٍ ماليةٍ كبيرة، مما أّدي إلى توقعات نمو منخفضة لا تتجاوز 3.1٪.  ومع ذلك، تبرز اقتصادات قوية مثل ساحل العاج (6.5٪) والسنغال (6.0٪) كمؤشرات على إمكانات النمو المتوازن داخل الإيكواس؛ لكنها أقل من تلك التي سجلتها النيجر.

إنّ أداء اتحاد الساحل الاقتصادي القوي، رغم صغر حجمه، يتناقض بشكلٍ كبير مع المسارات غير المتوازنة للإيكواس. ويبرز تركيزه المحلي الأكثر تحديداً وتعاونه الضيق كنموذج بديل للتكامل الإقليمي، يعطي الأولوية لنقاط القوة المشتركة والاحتياجات العاجلة.

توقعات اقتصادات دول أفريقيا جنوب الصحراء 2024
توقعات اقتصادات دول أفريقيا جنوب الصحراء 2024

ما التحديات المحتملة في هذا السياق؟

على الرغم من إمكاناتها الواعدة، لا تزال دول اتحاد الساحل والإيكواس متورطة في تحديات معقدة. إذْ تهيمن التهديدات الأمنية على جدول الأعمال؛ حيث تؤدي حركات التمرد إلى زعزعة استقرار المناطق الريفية، وفرض ضغط كبير على اقتصادات هشة بالفعل.

وتزيد موجات تغير المناخ من تفاقم هذه المشكلات؛ حيث تهدد ظواهر التصحر، وشحّ المياه سبل العيش، لا سيما في المجتمعات التي تعتمد على الزراعة. وتتعقد هذه القضايا الهيكلية بسبب بيئة عالمية مليئة بالتضخم، وشروط تمويل صارمة، وانخفاض المساعدات الخارجية، مما يترك لهذه الدول مساحة مالية محدودة للتحرك.

من الناحية الجيوسياسية، يَظْهر اتحاد الساحل والإيكواس في خضمّ توتراتٍ مع القوى الإقليمية والدولية، خاصة بعد انقلاب النيجر في عام 2023م، وإعادة تنظيم أوسع للتحالفات العالمية. وبينما يسعى اتحاد الساحل إلى تأكيد الاستقلال الإقليمي، ستكون قدرته على التعاون مع الإيكواس والاتحاد الأفريقي ضرورية في التغلب على هذه التعقيدات الداخلية والخارجية.

فبالنسبة لدول اتحاد الساحل، يجب أنْ توازن الشراكات بين السيادة الإقليمية والتعاون العملي؛ لضمان الاستقرار والنمو في آن واحد.

ما الفرص المتاحة لاتحاد الساحل؟

يُعدُّ الحجم الصغير لاتحاد الساحل مقارنة بالإيكواس ميزة في بعض الجوانب. فمع وجود عدد أقلّ من الدول الأعضاء، يمكن أنْ تكون عملية صنع القرار أكثر مرونة واستجابة للتحديات المحلية. ويمكن أنْ تكون التوقعات الاستثنائية للنمو في النيجر ومواردها الطبيعية بمثابة محفز للمنطقة، بينما يبرز النمو المستقر في بوركينا فاسو ومالي إمكانيات التقدم الجماعي. فإذا ما تمكن الاتحاد من دمج جهوده الاقتصادية، مثل تنسيق السياسات التجارية، وتعزيز الاستثمارات عبر الحدود، فقد يصبح نموذجاً للتعاون الإقليمي المستهدف.

وفضلا عن ذلك، يوفر الموقع الاستراتيجي للاتحاد كجسر بين شمال أفريقيا وأفريقيا جنوب الصحراء، ميزة جيوسياسية فريدة. فمن خلال وضع نفسه كشريك في مشاريع الطاقة المتجددة، والزراعة المستدامة، وتطوير البنية التحتية، يمكن للاتحاد جذْب استثمارات دولية تتماشى مع الأولويات العالمية، مما يعزز مكانته كمحرك للتنمية في المنطقة.

هل سيتمدد اتحاد الساحل ليشمل دولًا جديدة؟

بينما يتصدر اتحاد الساحل والإيكواس المشهد الإقليمي في أفريقيا جنوب الصحراء كنموذجين متباينين للتعاون الإقليمي، تزداد التحديات التي تفرض نفسها على هذه الكتل وسط تطورات سياسية وأمنية متسارعة.

تواجه كتلة الإيكواس، بامتدادها الكبير وعدد دولها الأعضاء، تحديات النطاق والاختلافات الاقتصادية والاجتماعية بين أعضائها. وعلى الجانب الآخر، يتمتع اتحاد الساحل بمرونة أكبر، نظراً لحجمه الأصغر، وتركيزه الموجّه نحو قضايا محددة مثل الأمن والتنمية الاقتصادية والاستقرار السياسي.

ولكن، هناك تطورات حديثة، مثل قرار تشاد بإنهاء اتفاقية التعاون العسكري مع فرنسا، تلقي بظلالها على المشهد الإقليمي. إنّ هذا القرار، الذي أُعلن في 29 نوفمبر 2024، أثار تساؤلات عميقة حول دوافعه وخلفياته الحقيقية. فقد صرّح الرئيس التشادي محمد ديبي بأنّ الاتفاقية أصبحت قديمة وعفا عليها الزمن، ولا تتماشى مع احتياجات تشاد الأمنية والجيوسياسية الحالية. ومع ذلك، فإن هذا التصريح يُخفي خلفه تعقيدات أكبر قد تتعلق بالعلاقات المتوترة مع فرنسا.

وفي هذا الصدد، لا يمكن تجاهل الاحتمالات التي تشير إلى إلى أنّ الضربات الموجعة التي تلقاها الجيش التشادي مؤخرا في منطقة بحيرة تشاد، والتي أسفرت عن خسائر فادحة أمام الجماعات الإرهابية، قد تكون ناتجة عن غياب الدعم اللوجستي والاستخباراتي الكافي من الجانب الفرنسي. لأن القوات التشادية تعتمد بشكل شبه كامل على فرنسا لتوفير الإحداثيات الدقيقة، والتغطية الجوية، والدعم اللوجستي لمهامها العسكرية؛ بل وحتى في مراقبة حدودها. فغياب هذه العناصر الحاسمة في لحظات حرجة قد يُفسَّر على أنه تضليل متعمَّد، أو حتى قطع للإمدادات الحيوية، وهو ما دفع الحكومة التشادية إلى اتخاذ هذا القرار كنوع من الاحتجاج، أو محاولة لإعادة التوازن في العلاقات الثنائية.

وبالنظر إلى السياق الإقليمي الأوسع، يُثير القرار أسئلة حول مستقبل التحالفات التقليدية بين الدول الأفريقية والقوى الاستعمارية السابقة مثل فرنسا. ففي السنوات الأخيرة، شهدت المنطقة موجة من إعادة تقييم العلاقات مع فرنسا؛ حيث بدأت دول عدة في تقليص اعتمادها على باريس، والتوجه نحو بناء شراكات إقليمية ومحلية أكثر استقلالية. فقرار تشاد قد يكون جزءًا من هذا التوجه؛ لكنه في الوقت نفسه يحمل مخاطر كبيرة على أمنها الداخلي، لا سيما في ظل اعتمادها العسكري على الدعم الفرنسي.

وما يعقّد المشهد هو أنّ هذا القرار قد يكون ورقة ضغط أكثر منه تحولًا جذريّاً. فقد تسعى الحكومة التشادية من خلاله إلى تحسين شروط الشراكة مع فرنسا، خاصة بعد ما بدا وكأنه تراجع في التزامات باريس الأمنية تجاه تشاد. وربما تسعى الحكومة أيضا إلى كسب الرأي العام الداخلي، في ظل الغضب الشعبي الناتج عن الضربات الإرهابية في بحيرة تشاد، فضلا عن التصدعات الخفية بين المنظومة الحاكمة منذ مقتل الرئيس إدريس ديبي إتنو، وذلك من خلال إظهار استقلالية سياسية وأمنية تعزز موقفها أمام المواطنين.

وفي الوقت نفسه، يمكنْ أنْ يشكّل هذا القرار فرصة لتعزيز التعاون مع اتحاد الساحل والإيكواس. إذا تمكنت تشاد من بناء شراكات إقليمية تُعوّض الفراغ الذي قد تتركه فرنسا، فقد تكون هذه الخطوة نقطة تحول في تعزيز أمنها الإقليمي. ومع ذلك، يظل السؤال مفتوحاً حول مدى قدرة تشاد على الاستغناء عن الدعم الفرنسي بشكل كامل، وما إذا كانت هذه الخطوة تمثل تحولًا حقيقيّاً أم أنها مناورة سياسية قصيرة الأمد.

ويبقى المشهد الإقليمي مشحونًا بالاحتمالات والتساؤلات، ويبدو أنّ الأشهر القادمة ستكشف مسار هذا القرار وتأثيره على مستقبل التحالفات في المنطقة؛ بل وتحدده بشكل أوضح. وعلى الرغم منْ أنّ الحكومة التشادية أكدت انفتاحها على شراكات جديدة، بما في ذلك مع فرنسا، إلا أنّ هذا التحرك يُنظر إليه كجزء من توجه أوسع في المنطقة نحو تقليص النفوذ الفرنسي.

وعوداً إلى بدء، يظلّ الأداء الاقتصادي يمثل العنصر الأكثر ضرورة في تحديد مسار اتحاد الساحل والإيكواس. تقود النيجر دول اتحاد الساحل بنمو استثنائي (9.9٪)، مدفوعًا باستثمارات استراتيجية وتنمية موارد طبيعية. في المقابل، تواجه الإيكواس، على الرغم من إمكانياتها الكبيرة، تناقضات اقتصادية واضحة، حيث تتعثر اقتصادات كبرى مثل نيجيريا (2.9٪) وغانا (3.1٪) تحت وطأة تحديات هيكلية ومالية، بينما تسجل دول مثل ساحل العاج والسنغال نموًا أفضل؛ ولكنه أقل إبهارا مقارنة بدول الساحل.

ومع ذلك، فإنّ الطريق نحو تحقيق طموحات اتحاد الساحل لن يكون سهلًا. الأمن، الذي يُعدّ حجر الزاوية لأيّ تنمية اقتصادية، لا يزال هشّاً، في ظل انتشار التمردات المسلحة، والتحديات المناخية التي تؤثر على سبل العيش للناس.

وفي هذا السياق، يحتاج الاتحاد إلى توسيع شراكاته الدولية ليس فقط مع الدول الأفريقية؛ ولكنْ أيضاً مع الجهات الفاعلة العالمية، لجذب استثمارات في مجالات مثل الطاقة المتجددة والبنية التحتية والزراعة المستدامة.

أما عن إمكانية تمدد اتحاد الساحل ليشمل دولاً أخرى، فإنّ ذلك يعتمد بشكل كبير على قدرته على تقديم نموذج ناجح للتنمية الاقتصادية والاستقرار السياسي. إذا نجح الاتحاد في تعزيز موقعه كقوة إقليمية، فقد يصبح مغرياً لدول أخرى ترغب في الانضمام لتحقيق مصالح مشتركة.

ويبقى السؤال الأهم الذي ينبغي طرحه: هل يستطيع اتحاد الساحل أن يعيد تشكيل مفهوم التعاون الإقليمي، ويثبت نفسه كقوة اقتصادية صاعدة في مواجهة التحديات المتراكمة؟ وهل يُمكنه التفوق على الإيكواس ليصبح محركًا رئيسيًا للنمو في أفريقيا جنوب الصحراء؟

شاركني رأيك من أجل التعرف على رحلة المنطقة نحو التحول الاقتصادي الشامل. 🌍✨

محمد زكريا

محمد زكريا

باحث دكتوراة في التمويل الإسلامي والاستثمار المؤثر، وصانع محتوى​ رقمي. مهتم بقضايا وسط إفريقيا الاقتصادية والاجتماعية.

المقالات: 12
error: Content is protected !!