أوراق على أوراق النيم، مقال كتبه الدكتور محمد صالح ضواي ونُشر لأول مرة على صفحته الخاصة على الفيسبوك، ويعاد نشره هنا لأهميته.
“نحن بقايا أرواح صدئة، لا تعرف للخير مذاقاً…”.
“نحن بقايا أوطان فارغة، دمرتها هموم التخلف والبحث عن متنفس…“.
بهذه العبارات الثورية الغاضبة استهل الكاتب فصله الأول.
بدأ مفهوم الرواية يتغير، متأثراً بالفترات التاريخية التي قطعتها، وبالنظر إلى طبيعة الاتجاهات النقدية المتحكّمة في السرد الأدبي التي أحاطت المفهوم-الذي يميز بين الرواية وفن المذكرات والبيوغرافيا-بصمت مهذّب، وتظل الخيوط التي تفصل بين هذه الأنواع رقيقة يعصب تمييزها بمجرد انفعال، ولربما تتهالك أو تتمالص تلك الخيوط عند العجلة التي تفتقر إلى الحكمة. هذا فضلاً عن التنبؤات التي تتحدث هنا وهناك عن قرب زوال الحدود التي تفصل بين جميع جزر السرد الأدبي، وأملنا أن نحضر ذلكم الانصهار الحاسم في لحظة من التفاعل والتكامل.
إن الرواية كمتخيل تسبق النص بكثير. وفي هذا السياق، أود التعليق على الطفلة الجميلة التي تُدعى “أوراق النيم” للروائي إبراهيم يوسف محمد. الرواية رغم تشاؤميتها، إلا أنها حكت واقعاً مذرياً في نص متخيل، شرّحت طبائع صلبة أبت أن تتغير، أبت أن تقفز فوق هذه الأوضاع التي وحلت فيها أزمنة طويلة. تدل الرواية، دلالة قاطعة على أن جيل العشرينات والثلاثينات، وإن جار به الزمن وعبثت به الحياة، فهو لا يزال يقاوم تلك القسوة والبؤس والضنك الذي فرضته عليه الطبيعة الاجتماعية المعقدة.
رواية “أوراق النيم” في سطور
رواية “أوراق النيم” التي تتألف من (127 صفحة) صريحة غير مجاملة في طرحها، أبحرتُ في صفحاتها خلال جلستين فقط بعد تدشينها الذي صادف يوم 06 أغسطس 2023م، لم أقع على جملة تدفعني إلى الضحك أو الابتسامة الصغيرة حتى، إلا عندما وصلتُ صفحة (122). وهذا وارد جداً؛ لأن الكاتب أحياناً يعْصر حبره من الواقع الذي يعيشه، وإذا جاز لنا أن نعرف الرواية، نقول: إنها سردية تحكي تفاعلات اجتماعية ضمن خطاب أدبي.
وفي هذه الأوراق أسجل انطباعاتي على “أوراق النيم“. وبالجملة الرواية ممتعة، سلسلة العبارة، جيدة الأسلوب، نصوصها ممتلئة حد التدفق، حوت عدداً من القضايا الاجتماعية والسياسية والفكرية، تأخذك تارة إلى عالم السحر والشعوذة، وأخرى إلى عوالم يوتوبية حالمة. والنصوص الأدبية دائماً تحمل شحنات سالبة وموجبة في ذات الوقت، ويبقى الرهان على حسن البيان من الكاتب وسوء التأويل من القارئ.
إن أوراق شجر النيم، أنيقة حين تتراقص بالرياح المندفعة مع باكورة الخريف، وهي غير جميلة عندما تتساقط صفراء على الأرض فتثير غضب بعض السيدات اللاتي يعتنين بمظاهر البيوت. هي مزعجة، ولكنها أحياناً مفيدة يستخدمها بعض البؤساء علاجات للملاريا والتايفود وغير ذلك من الأمراض المستوطنة، وهي فوق كل ذلك لها ظل وريف من غير ريف.
“نحن نشبه القرابين المقدمة دون جرم ارتكبته، إلا أنها وجب عليها أن تكون الضحية”. يسلط الكاتب من خلال بطل الرواية الضوء على اللعنة الأولى التي ارتكبها الأجداد؛ لأنهم رضوا أن يعيشوا على هذه المدينة القذرة “أنجمينا” التي تشبه المستنقع المهجور ، توضع عليه أكوام الأشياء الذابلة. تجمّع في هذه المدينة الحاقدين والمحبين، الحاسدين والمحسنين، الخيرين والمنتفعين، السيئين والطيبين…
امتلأت الرواية، بذكر الأماكن كالعاصمة أنجمينا، المساقط، آدم تشيري، رامبوان سيسبان، شاري لوغون، المركز الكويتي، شارع أربعين، باريس، وتركيا… وأسماء الوجبات والألعاب التي يحبها الشباب والأطفال على وجه الخصوص. عرّفت الرواية بوجبات الأطفال التي يتناولونها في المدرسة، مثل: البنقاو، الشندوتشات، الفنقاسو، الشاي بالقاتو…
ركزت الرواية تركيزاً بالغاً على التربية والتنشئة الاجتماعية، ويفرّق الكاتب بين التربية كسلوك، والعلف كبناء جسماني؛ لأن”التربية ليس بتوفير احتياجات مادية فقط، بل معنوية…”. إن حرمان الطفل سبب لتنشئة خاطئة، وتعود أسباب خيبات أمل الشاب واستسلامه للواقع إلى حياته الأولى. أشار الكاتب إلى فقدان الحنان من الأب الذي يجري طول النهار وراء الرزق. أما الأُم فهي لا تعي أحيانا أنها أُم، بقدر ما تفهم من نفسها أنها مصنع لإنتاج البشر السيئين . تحاول الأم أرسال أطفالها في غياب الأب إلى خلوة حفظ القرآن الكريم، ليفسحوا لها المجال لممارسة حاجاتها التافهة: الباري، الحناء، المشاط… القرآن الذي يقرؤه الأطفال وهم يفترشون التراب ويتلحفون الحشرات والبعوض والحمو مع معدة فارغة، هذا القرآن يزداد به الطفل لعنة فوق سبع لعنات أصابت آباءه من قبل.
إن الأسرار التي يتكتم عليها الآباء، يفشيها الأطفال حال لعبهم ولهوهم مع أقرانهم من أطفال الجيران الذين ينقلون بدورهم ما سمعوه إلى آبائهم وأمهاتهم. ولهذا أشارت الرواية إلى ضرورة التعامل مع الأطفال وفق طرائق تربوية جيدة، حتى لا نربي أطفالنا على الخيانة الأخلاقية والنفاق الاجتماعي الذي استشرى في المجتمع.
الخلل التربوي الذي يرتكبه الآباء
من خلال الدراما الحوارية التي دارت بين شخوص الراوية كالحاج موسى وزوجته وابنهما عمر، يفصح الكاتب عن الخلل التربوي الكبير الذي يرتكبه الآباء للحد من حرية أبنائهم في اللعب وكذا الزجر المستمر، كما تسفر الرواية عن خطورة الشارع في أنجمينا للأطفال الأسوياء، هذا الشارع المكتظ بأطفال البؤساء والمعدمين الذين يجوبون ليل نهار في الأحياء ويتبادلون عبارات بذيئة يخجل الكبار من البوح بها(زاماااااا). كما وتفيد الرواية الحاجة الماسة لملاعب تربية الأطفال، مخصصة لهم داخل الأحياء السكنية، يفرحون ويمرحون، يلعبون ويلهون…
شَغَلت الكهرباء بال الكاتب في عدد من الإيماءات والإيحاءات وأحياناً العبارات الصريحة، يظل الأطفال في انتظار الكهرباء طوال الليل وأطراف النهار، أصبحت الكهرباء جزء من الفرح والسرور الذي ينتظره الناس، ارتبط مجيؤها بصرخات الأطفال الجميلة “كورا جا، كورا جا”! هذه الصرخات تحكي للقارئ قصة واقعية، بأن الحياة في العاصمة أنجمينا بدون كهرباء سجن لا يطاق.
تحكي الرواية في بعض فصولها، هوس شباب العشرينات والثلاثينات للدراسة في الخارج، ففي سبيل تحقيق هذا الهوس أحياناً يكلف الشاب أسرته بما لا تطيق من مصروفات السفر والإقامة في بلد الجامعة التي يود الدراسة فيها.
لكن الكارثة الأكبر، إن هذا الذي صرفت عليه الأسرة الغالي والنفيس، ليتخرج في جامعة تركية، يعود بعد أربع سنوات قضاها في الجامعة، ينتظر الوظيفة العامة تحت أشجار النيم المورقة، وهو لا يتعلم من روتين سقوط الأوراق، ولا يفهم كيف يتساقط عمره كما هذه الأوراق، يبقى ينشد الأمل تحت النيم وفوق الإرادة “وهكذا تمر أعمارنا بين التمني والانتظار دون أن نحدث تغييراً”.
يثمن الكاتب على جهود الصديق وأهميته في الحياة، في مقاسمة القلق والأوجاع، فالصديق الصدوق رزق من أرزاق الدنيا العديدة، فهو لا يحقد ولا يحسد ولا يكذب ولا يخون؛ لأن الصداقة أمانة، وملعون من خان الأمانة.
جملة من معاناة البطل وهو يتقمص شخصية شاب مسلوب، أن رزقه الله بصديقه “حسن” الذي تغلب عليه صفات الكبار، كالجدية والحزم وعدم حب اللهو والمرح… وغيرها من الأمور التي تفسد حياة الصديق من الناحية النفسية. ورغم ذلك لما سافر “حسن” إلى تركيا في سرية تامة وفي ظروف غير واضحة، افتقده وأثار في نفسه مجموعة من التساؤلات. طبعاً، ترد دولة تركيا مراراً في نصوص الرواية؛ لأنها أصبحت منذ ما يقارب العقد، متنفس لكثير من الشباب الذين ضاقت بهم أنجمينا بما رحبت.
أشار الكاتب كثيراً من خلال شخصية البطل البائسة، على المعاناة التي يواجهها جيل العشرين والثلاثين، من تيه وتشرد وميعان وضحالة فكر، ومن خلال صورة الشاب “حسن” الفتى الخجول، توحي للقارئ وكأنّ جيل العشرين والثلاثين من شباب العاصمة، جيل شكلاني لا يهتم إلا بشكله وهندامه وهيئة ملابسه.
الصفات التي غلبت على “حسن” كحبه للشاي، بنيته الجسمانية الضعيفة، صمته وذكاؤه، شعره الناعم، قوة أعصابه… كلها تدل على أن هذا الشاب ينتمي أحد أبويه إلى مناطق الشمال التشادي.
أكد الكاتب على وجود التفاهات الدينية الكبيرة في المجتمع، يستخدمها بعض منتحلي الدين، والتي تدعو الشباب إلى الاستسلام للمقادير، وعدم المغامرة لتغيير الواقع المر؛ لأن في نظر شخصية “الحاج موسى” أن الله قد كتب لساكني العاصمة أنجمينا أن يعيشوا هكذا، ويجب أن يرضوا بهذا القدر المكتوب: البعوض قدر، والجهل قدر، والفقر قدر، والحاكم ظل الله في الأرض قدر، وهكذا تستمر بنا الحياة في خضم فلسفة قدرية سالبة.
القيم الاجتماعية السائدة
أكد الكاتب على بعض القيم الاجتماعية السائدة في الجيل الفائت، كقوة الشخصية التي تتمتع بها الجدات والأمهات الكبيرات في مواجهة المدلهمات والصمود في وجه الظروف والعواصف، مثل أوراق النيم القوية التي تبقى خضراء ثم يقسو عليها الزمن فتصفر، ولكنها لا تسقط بهزيز الرياح للوهلة الأولى.
تضع الرواية حداً لمفهوم الموت، وتحاول أن تصيغ مفهوماً آخر له، وفق لحظات تساقط أوراق النيم التي عاينها الكاتب معاينة مفكر تشبه ملاحظة نيوتن للتفاح أثناء سقوطه. فالموت بقدر ما يغيّب الكبار، يختفي أحياناً في أثواب الفتيان الذين يتمتعون بألين العروق وأقوى العظام.
يؤرخ الكاتب لحرب 13 أبريل 2008م، التي دارت بين جيوش المتمردين الذين أحاطوا بالقصر الوردي، وجيش الرئيس إدريس ديبي المتشبث بالحكم آنذاك. أراد الكاتب أن يشير إلى نتائج الحرب، وما خلفته من ويلات ودمار وخراب، يتّمت العديد من جيل العشرينات والثلاثينات ووضعتهم في غرق الحياة.
“نحن غرقى في مستنقع المتاعب والرثاء“.
هذه العبارة التي وردت في الفصل الرابع، استوقتني كثيراً، متاعب الحياة في تشاد كثيرة، تعد ولا تحصى، ولك أن تضع أي شيء في تشاد تحت طائلة المتاعب.
سلط الكاتب نقده الشديد لعادات سيئة-برأيه-مستشرية في مجتمعنا، كاشتراط الأب لابنه بضرورة الزواج من الأقارب والأهل.
تحكي بعض فقرات الرواية مشكلات المستشفيات وما يعانيه المرضى من إهمال بسبب الإضرابات المتكررة للأطباء.
صالت الرواية وجالت في كثير من مطارات دول العالم، تطير بالقارئ من مطار “باريس”، إلى “اسطنبول”، ومنه إلى مطار “دوالا” الدولي، المدينة التي وصفها الكاتب بالتعاسة والنجاسة. فيها العديد من امتحانات الحياة التي يواجهها الشباب التشاديون، الانحرافات الأخلاقية التي يمارسها البعض بسبب اختفائه عن أنظار الأهل.
من خلال الحوارات التي دارت بين بطل الرواية ومسؤول في مطار “دوالا” ، أشار الكاتب إلى الصعوبات التي يواجهها الركاب التشاديين، سيما عندما طلب المسؤول من الراكب دفع رشوة، وعند الرفض هدد بإلغاء الرحلة. هذه الفقرات ذكرتني بعام 2011م وبحجم الصعوبات التي واجهتها مع أصدقائي عندما وصلنا مطار “دوالا” قادمين من الدار البيضاء، أجلنا السفر فطُولبنا بدفع غرامة مالية كبيرة للغاية.
في فقرة أطلق عليها الكاتب “الجنقو” وهم عيال الشارع، أو الهامش الفظيع، مدمنو الخمور البلاستيكية، الباحثون عن أرزاقهم في القمامة والنفايات، أو كما يسميهم آرنولد توينبي “البروليتاريا الخارجية” هؤلاء يتنامى فيهم سلوك الحقد والكراهية من الشباب الذين ينتمون إلى طبقات ميسورة، ومن خلال ذلك يحاول الكاتب إيصال رسالة مهمة للجهات المسؤولة وينبهها بخطورة ما يحدث من تهميش الجنقو، هذه الفئة الحاقدة على غيرها، هي في تطور وازدياد مستمر؛ لأن “أنثى الجنقو تحمل وتلد فوق الأوراق والأوساخ وبين الأبنية الحزينة التي تملأ المدينة ووسط القمامات…”.
في بعض فقرات الفصل الثامن والأخير، سلط الكاتب الضوء على معاناة الطالبات في بعض الأقسام بجامعة الملك فيصل، تنهض الفتاة مبكرة، تترك حضن زوجها الدافئ، مع ذلك تصل متأخرة بسبب ازدحام السير ورداءة المواصلات.
“كنتَ أبكم ونطقت الآن أم ماذا؟”. العبارة التي أضحكتني كثيراً، وأنا أقاسم البطل معاناته، هذه الفقرة تحكي للقارئ معاناة الفتيات والشبان عموماً من البوح بالحب؛ لأن تنشئتهم الاجتماعية المبكرة وضعتهم تحت سلطان الضغوط الاجتماعية والقيود الدينية، لهذا يقال: أكثر الحب غير صادق؛ لأن “الحب الصادق يهدم كل الظروف المحيطة، ويذلل كل الصعاب”.
وسقطت جميع الأوراق، أما “حليمة” فظلت ترفرف على غصن غض طري، إلاّ أن رياحاً عاتية قادمة من فيافي الشمال قد جزّتها. إن الأشخاص في هذه الحياة مثل ورق النيم تماماً، لا يسقطون دفعة واحدة، ولا يستمرون في البقاء، لكن الشيء المؤكد أن السقوط شيء حتمي، بعض الأوراق تسقط بقوة وهي خضراء فاتحة، وبعضها يصمد لحين، وبعضها الآخر يتأخر إلى زمن الاصفرار والغباش ثم يسقط بمهل.
إن الرواية، بقدر سوداويتها، تفيض بالجمال اللغوي، وتطرح تساؤلاً مدهشاً وكبيراً يتعلق بنظرية المعرفة: هل يمكن أن نرى كل الأشياء بعدسة واحدة، أم أن كل ركن يُرى بعدسة مختلفة؟
كُتِب في 07 أغسطس 2023
أدعوك دعوة خاصة لتصفح مدونتي الشخصية من هنا