سجايا الروح أولى خطواتي مع الأبجدية العربية 2024

سجايا الروح: أولى خطواتي مع الأبجدية العربية

في زمنٍ بعيدٍ؛ حيث تمتزج رائحة الأرض بعبق التاريخ، وتتسابق خيوط الشمس الذهبية لتودَع في مخبئها، أيْ قُبَيْل المغرب، كانت هناك خطوةٌ أولى خُطّتْ في رحلة الألف ميل. تلك الخطوة، على رغم بساطتها، كانت بمثابة البذرة التي ستنمو لتصبح شجرة باسقة في حقل العلم والمعرفة.

ما زلتُ أذكر تلك اللحظة وكأنها كانت بالأمس، حينما أمسك بيدي والدي العزيز، تاركا وراءه متجره الذي يضجّ بالباعة والرواد في سوق “مسكين”؛ ليعود مسرعا إلى البيت الذي يقع في حيّ ماليماكا بمدينة بانغي، التي تعتبر قلباً نابضاً في وسط تلك القارة الإفريقية العتيقة. كانت الأسواق تزخر بالحياة والنشاط؛ لكنّ الوالد اختار أن يخصص ذلك الوقت ويُوقفه لله تعالى؛ حيث ينحدر النهار للمساء، وينشط اليل من عِقاله ليعانق السماء؛ ليُكَوِّن بداية رحلتي في تعلم الحرف العربي.

وكان عمري وقتها لا يتجاوز الخمس أو الست ّسنوات فيما أذكر، وما كنت أعلمه عن العالم يتّسِع في دائرة صغيرة جدًا، وينحصر مداه في ثلاثة بِيُوتٍ يتوسطها فناءٌ واسعٌ، ويحيطها سور يبلغ طوله حوالي مترين تقريبا؛ لكن تلك الليلة، ومع أول درْسٍ في الكُتّاب، شعرت بأنّ دائرتي الضيقة تلك بدأت تتسع. لأني لأول مرة أبتعد عن البيت في هذا الوقت تحديدا لمساقة تزيد عن الثلاث كيلومتراتٍ؛ لكنها بخطوات الطفل المتقاربة أشعر وكأنها سبعة فراسخ أو تزيد!

وعلى الرغم من ذلك، لم تكن البداية كما يحلم بها أيّ طفل، فقد غلبني النُّعاس سريعا، ووجدت نفسي أغفو بينما الأطفال حولي يتعلمون، ربما لتعودّي على النوم مبكراً. حاولوا إيقاظي؛ لكن الشيخ، بحكمته وصبره، منعهم، مانحاً لي فرصةً للراحة.

ومع مرور الأيام، تكرر المشهد، حتى جاء اليوم الرابع الذي بدأ الشيخُ يأخذ الأمور بجدية أكثر. شعرت بالخوف من العقاب وبدأت أنتبه. كان ذلك بمثابة الإيقاظ ليس فقط من نومي؛ بل لروحي وعقلي أيضا.

منذ تلك اللحظات الأولى، ومع كل حَرْفٍ أتعلمه، كانت الأبواب تُفتح أمامي على مصراعيها. في الوقت الذي كانت اللغة الفرنسية هي السائدة في البلد، إذْ هي لغة الدراسة والإدارة، والسانجو لغة التخاطب الشعبي؛ لكنها ليست لها أبجدية خاصة بها، وجدتُّ في الحرف العربي عالماً جديداً يجمع بين الفنّ والعلم، بين الأدب والدين، بين الماضي والحاضر والمستقبل.

الأبجدية العربية ترحلُ بيّ

سنوات عديدة مرّتْ منذ تلك اللحظة، رحلةٌ طويلةٌ حملتني من بانغي إلى دولٍ وقارّاتٍ بعيدة ومتعددة، تعلّمْتُ فيها الكثير وتألمتُ أيضا كثيراً، والتقيت بأناسٍ من شتى الثقافات والخلفيات. كل خطوة جديدة كانت تزيدني إصراراً وشغفاً بالمعرفة والاطلاع.

ومع كل رحلةٍ، وكلّ لقاءٍ، كانت تلك الحروف العربية الأولى التي تعلمتها في كُتّاب حيّ ماليماكا ترافقني كظليّ، مذكرةً إيّايَ بأهمية الجذور والأصول وكيف أنها، بغض النظر عن مدى تنقلنا وتعلمنا، تبقى جزءًا لا يتجزأ من هويتنا وكياننا.

أصبحَتِ القراءةُ بالنسبة لي ليست مجرد هواية أو نشاطًا أقوم به في أوقات فراغي؛ بل صارت بوابّتي لعوالمَ لا حدود لها. فهي مَصْدراً لا ينضَبُ من الإلهام والمعرفة. علمتني القراءةُ أنّ كُلّ كِتَابٍ أفتحُه، هو بداية رحلة جديدة، وأنّ كلّ صفحةٍ أقلبها هي خطوة أخرى في مسار الحياة المليئة بالتحديات والاكتشافات.

اليوم، وأنا أقف على ضفاف الوقت، أتأمل ما مرّرْتُ به من تجارب، وما تعلمته من دروس، أجد أنّ أهمية القراءة لا تكمن فقط في الحصول على المعرفة؛ بل في كونها تنير لي الطريق في أحلك الظروف، وتمدني بالأمل والإلهام لمواجهة الحياة بكل ما فيها من تحديات.

وها أنا الآن، تَعُودُ بي الذاكرة إلى تلك اللحظات الأولى، حين كان الحرف العربي بوابتي الأولى نحو رحلة عمري المعرفية، وأُدْرِكُ أنّ كلّ ما مرَرْتُ به منذ ذلك الحين كان مجرد بداية. فما زال أمامي الكثير لأتعلمه والكثير لأكتشفه، والكثير لأقُصّه.

وبينما تجرفني شواغل الحياة اليومية بعيدًا عن ذكرياتي تلك، أعلم في قرارة نفسي أنه، مهما بَعُدْتُّ أو تغيّرَتِ الظروف، سيظل في داخلي ذلك الطفل الذي يتوقُ دوما لاكتشاف حرفٍ جديدٍ، قصةٍ جديدةٍ، عالَمٌ جديد. وهكذا، تبقى نهاية قصتي مفتوحة، كصفحة بيضاء تنتظر الكتابة، أو كلوحٍ خشبيٍّ مُحِي مكتوبه السابق بماء طاهر وحبيبات رمْلٍ، فأصبح ناصعا ينتظر تسويدا جديدا، ولعلها تكون بداية سلسلةٍ جديدةٍ من الرحلات والاكتشافات التي لا تنتهي.

محمد زكريا

محمد زكريا

باحث دكتوراة في التمويل الإسلامي والاستثمار المؤثر، وصانع محتوى​ رقمي. مهتم بقضايا وسط إفريقيا الاقتصادية والاجتماعية.

المقالات: 12
error: Content is protected !!